Digital Repository for faculty of Arts Tripoli

Statistics for faculty of Arts Tripoli

  • Icon missing? Request it here.
  • 26

    Conference paper

  • 27

    Journal Article

  • 9

    Book

  • 0

    Chapter

  • 34

    PhD Thesis

  • 241

    Master Thesis

  • 0

    Final Year Project

  • 14

    Technical Report

  • 2

    Unpublished work

  • 1

    Document

تجليات الحداثة في القصيدة العباسية حتى نهاية القرن الخامس الهجري

حاولت هذه الدراسة أن تقدم صورة عن تراث العرب الأدبي في عصر من أرقى العصور الإسلامية ثقافياً، وأدبياً، وأكثرها إنتاجاً للشعر، وهي حقبة الحكم العباسي، هذا العصر الذي وإن كثرت الدراسات حوله ؛ فالحاجة ما تزال قائمة فيه للمزيد من الدراسات التي تكشف قدرة شعرائه، وتوضح بديع إنتاجهم. من هنا كان هدف هذه الدراسة الرئيسي، هو توضيح أهم ملامح الحداثة، والتطور التي طرأت على القصيدة العربية في العصر العباسي. ومسألة التطور، والتجديد، والتكيف مع ظروف العصر السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، تعد من سنن الحياة في كل عصر، وخاصة إذا ما توفر المناخ المناسب لكل ذلك ؛ وهذا ما حدث بالفعل مع القصيدة العربية في العصر العباسي، الذي شهد نقلة نوعية طالت كل مناحي الحياة. فهمُّ هذه الدراسة إذاً هو السعي إلى الوقوف على أشكال التطور والتجديد الذي طرأ على القصيدة الشعرية في العصر العباسي ومن هنا فقد جاء الفصل الأول من هذه الدراسة تمهيداً تناول مظاهر الحياة العامة، وما صاحبها من تغير على الصعيد السياسي، والاجتماعي، والعقلي الثقافي، حيث أوضحت من الجانب السياسي كيف أن سياسة الأمويين عملت على تأليب الناس ضدها، وخاصة فئة الموالي التي قاست ألوانـاً من الذل، والميز الجـنسي، مما دفعهم إلى العمل في الخفاء مع الحزب العباسي للإطاحة بالأمويين، وهذا ما تحقق لهم فعلاً، وكانت بعدهم دولة بني العباس الذين رجحوا كفة الموالي على العرب، الأمر الذي أمدَّ التيار الشعوبي بكل أسباب القوة فراح دعاته يعملون جهاراً، ودون رادع. ومن ناحية الجانب الاقتصادي فقد عملت على توضيح اختلاط العرب بغيرهم من القوميات، والبيئات الأجنبية التي أثّرت تأثيراً مباشراً على نظام حياة العرب الذي كان بسيطاً، وخالياً من التعقيد، وقد اتضح أنه كان للعامل الاقتصادي دوره في تكوين هذه البيئة المستحدثة مع توفر الأموال، وسيطرة طبقات بعينها على مقدرات طبقات أخرى بسيطة كادحة. وعرضت في الجانب الثقافي والعقلي من هذا الفصل إلى أثر الحضارات الوافدة على المجتمع العربي، فمن الثقافة الفارسية إلى اليونانية إلى الثقافة الهندية، وقد تعامل العرب مع هذه الثقافات من جانبين، جانب المخالطة المباشرة، والاحتكاك، وجانب آخر هو عن طريق الترجمة ؛ وقد كان فعل الاحتكاك الاجتماعي أبرز من دور الترجمة، يُضاف إلى هذا الجانب الثقافة الإسلامية التي تمازجت مع تلك الثقافات الوافدة. وقد خُصص الفصل الثاني من هذه الدراسة وهو المعنون بقضايا عامة لتناول ثلاث من القضايا التي شغلت النقاد، والشعراء، ومتتبعي الأدب، أولها كانت قضية الصراع بين القدم والحداثة، وقد أوضحت أن أنصار القديم كانوا من العلماء المهتمين بجمع اللغة، وتفسير القرآن الكريم، والذين كان همهم الأول هو المحافظة على عمود الشعر العربي ؛ أما دعاة التجديد فإنهم شعراء رأوا أنه من الزيف أن يحيوا حياة كلها حضارة، وترف مادي، وعقلي، ثم يتمسكوا في شعرهم بتقاليد لا تمت إلى هذه الحياة بأي صلة، ثم إن أصحاب الموقف المتشدد المحافظ تحولت نزعتهم تلك إلى عصبية قائمة على أسس زمنية بعيدة عن النظرة الفنية الصائبة. وكانت القضية الثانية قضية الثورة على الموروث، وقد جئت بالثورة على المقدمة الطللية كنموذج لها، هذه الثورة التي وجدت أن أبا نواس أكثر من هتفوا بها، وأن هذه الدعوة في عمومها كانت لا تخلو من شبهة الشعوبية، وإن كانت لها أمثلة عند شعراء عرب الأصل مثل ابن المعتز، وقد كان مصير هذه الدعوة هو الفشل لأن رائدها نفسه، وهو أبو نواس لم يفلت من النظام التقليدي للقصيدة المدحية في كثير من شعره، حيث افتتح كثيراً من قصائده بالمقدمة الطللية، وقد كان للخلفاء، والأمراء دور بارز في استمرار المقدمة الطللـية في الشعر العباسي، لأن ذلك بالنسبة لهم نوع من الترف الفني، كما أنهم كانوا يحبذون من ممتدحيهم الرجوع بهذه المدائح إلى النسخة العربية الأصيلة التي رأوها في أشعار الفحول من شعراء الجاهلية الأوائل، هذا مع العلم بأن أكثر هؤلاء الخلفاء كانوا على علم ودراية - لا بأس بهما - بأساليب الشعر ونقده. وأتبعت القضيتان السابقتان بثالثة، وهي مسألة الصراعات الفكرية، والمذاهب الدينية، في القصيدة العباسية الأمر الذي لم يُعهد بكثرة في العصر السابق، فمن الحزب الأموي إلى الحزب العـباسي ودعاته، إلى العلويين، إلى فرق ونحل دينية أخرى، مثل المعتزلة، والشيعة، وتيار آخر هو التيار الشعوبي، فكل هذه الفرق والمذاهب وجدت في الشعر العباسي، وقد تقسم الشعراء العباسيون بين هذه الفرق والمذاهب، وأخذ كلٌّ منهم يدعو لما يراه لصالحه ؛ الأمر الذي أدّى إلى اتساع هذا النوع من الشعر السياسي، والديني في العصر العباسي. أما في الفصل الثالث فقد ألقيت الضوء على أهم ملامح التطور، والتجديد في القصيدة العباسية، وقد تناولت ذلك من جانبين: جانب الموضوعات أو الأغراض، وجانب الشكل الذي يحتوي الأسلوب، والأوزان، والصورة الشعرية. ففيما يتعلق بالغرض الشعري والتجديد فيه، فقد خلصت الدراسة إلى أن هناك تجديداً في الغرض الشعري، وقد انقسم عمل الشاعر العباسي فيه إلى نمطين، قام في الأول منهما بالتجديد في إطار بعض الموضوعات القديمة، كتجديده في القصيدة المدحية، وقصيدة الغزل، والرثاء، والهجاء، كما جدد الشاعر العباسي في شعر الوصف، إذ عمد إلى وصف الطبيعة الزاهرة، ووصف أكثر مظاهر الحضارة، والرقي في عصره مثل القصور، والجسور والسفن، والبرك، وأصناف الأطعمة التي راجت في عصرهم، كما اتجه آخرون إلى وصف أدوات الفكر والكتابة مثل الأقلام والكتب. وقد طال هذا التطور قصيدة الخمر، التي حمل لواء التجديد فيها أبو نواس الذي نادى بأن تحل المقدمة الخمرية محل المقدمة الطللية، كما استفرغ أبو نواس كل صفات الخمر وما تعلق بها من السقاة، والباعة، والندمان، والكؤوس وما زينت به من تصاوير لأجناد الفرس، وتطرق النواسي أيضاً في خمرياته لعملية تعتيق الخمر، وتغنى بالبلاد التي فضل أن تجتلب هذه الخمر منها وهي بلاد فارس، ومما وقفت عنده هذه الدراسة من التجديد في قصيدة الخمر وغيرها مثل قصيدة وصف الطبيعة ؛ أن هذه الأغراض أخذت تنحو نحو الاستقلال في قصائد ومقطوعات اقتصرت على غرض واحد سواء في صفة الخمر، أو في صفة الطبيعة، على خلاف ما كانت عليه قبل هذا العصر بأن تتداخل الموضوعات في القصيدة الواحدة. وشعر الطرد أيضاً حدث معه الأمر نفسه حيث جدد فيه الشاعر العباسي، بأن جعل القصيدة الطردية مسرحاً، جُسدت عليه رحلة الصيد، وما صاحبها من مجالس لهو، وشرب، وأكل، كما وصفوا في طردياتهم جميع الحيوانات الصائدة إضافة إلى الفرائس، واتجه بعضهم إلى افتتاح الطردية بفخره بالنفس ؛ كفعل المتنبي في بعض طردياته، وقد مزج المتنبي أيضاً بين المدح والطرد بأن جعل الممدوح هو الذي يصطاد الفرائس مباشرة دون استخدام الكلاب أو الفهود أو البزاة. كان هذا النوع الأول من التجديد الذي طرأ على الغرض الشـعري الموروث. أما النوع الآخر فهو ما قام فيه الشاعر العباسي باستحداث وابتداع أغراض جديدة لم يسبق للشاعر العربي أن نظم فيها، وهي أغراض دعت إلى اختراعها ظروف العصر ومعطياته المتباينة، وقد كان الشعر التعليمي من أبرز هذه الأغراض المستحدثة والطارئة على الشعر العباسي، كان باعثه الأول لجوء الناس في هذا العصر إلى تعليم أبنائهم العلوم التي شاعت في هذا العصر، وهي رواية الشعر، وعلوم اللغة، والعلوم الدينية، وعلوم الأوائل مما ترجم عن اليونان، فمن هنا ارتأى الشاعر العباسي تسهيل فهم وحفظ وتدارس هذه العلوم على المتعلمين بأن نظمها شعراً، وقد جاء أكثر هذا الشعر على بحر الرجز، هذا البحر الذي أثبت أنه أكثر البحور الشعرية قدرة على استيعاب مختلف العلوم التي كان الناس بصدد دراستها في هذا العصر. ومن ابتداعات الشاعر العباسي تناولت هذه الدراسة شعر المجون، وخاصة الغزل الشاذ منه - الغزل بالمذكر-، الذي اتضح أنه ظهر نتيجة تأثيرات أجنبية، ولم يُعهد عن العرب الأوائل أن تعاطوا مثل هذا النـوع من الشعر الشاذ، ولا جاءت به عنهم الروايات والأخبار. وقد استدعى استفحال أمر الشعر الماجن أن يظهر تيار شعري آخر مضاد، وهو تيار الشعر الزهدي، كما أن كثرة دعاة الخير والصلاح شجعت كثرة من شعراء هذا العصر على أن ينظموا فيه لتوعية الناس، وانتشالهم من رذائل التيار الماجن وشروره، كما أن من أسباب اتساع دائرة هذا التيار لجوء الطبقات المضطهدة من ظلم المجتمع وصخبه إلى الله والإنابة إليه. أما المبحث الثاني من هذا الفصل فقد اشتمل على الجوانب الشكلية في القصيدة العباسية، وما طرأ عليها من تجديد وتطوير، وهذه الجوانب هي الأسلوب الشعري، والأوزان، والصورة الشعرية، أما الأسلوب فقد أطلق عليه اسم الأسلوب المحدث أو المولد، لما كان لهُ من مميزات وسمات عصرية، لم تُعهد على أسلوب الشعر العربي القديم، فكانت أهم مميزات الأسلوب المحدث أن لجأ الشاعر العباسي فيه إلى الشعبية، وإدخال الكثير من الألفاظ اليومية لعامة الناس كما أدخل الشاعر العباسي في شعره الكثير من ألألفاظ الأجنبية، واقترنت هذه السمات بالميل إلى النثرية، والتفنن أيضاً في استخدام الصنعة البديعية إلى درجة أصبحت فيها هذه الصنعة مقصودة لذاتها. ومن الجوانب الشكلية في القصيدة العباسية تطرقت الدراسة أيضاً إلى الأوزان الشعرية وأثر حركة الغناء فيها، فهذه الأوزان التي وإن كانت وفيرة ومتنوعة قبل هذا العصر ؛ إلا أنه كان للشاعر العباسي تعامله الخاص معها استجابة لعوامل كثيرة دعت إلى التطوير في هذه الأوزان، وقد كان على رأس هذه العوامل اتساع دائرة الغناء، وانشغال كافة الناس به لدرجة أن معظم الشعر أصبح ينظم ليغنى به، من هنا قام الشاعر العباسي بإحياء بعض الأوزان التي كانت مهملة قبل هذا العصر، كما كثر نظمهم على الأوزان القصيرة والرشيقة، وتجزئة الأوزان الطويلة، وقد ألحق هذا التطور على صعيد الأوزان بأن تحلل الشاعر العباسي من النظام الموحد للقافية في القصيدة الواحدة، وذلك بأن نظم في المزدوجات، والمسمطات، والمخمسات، والرباعيات. يُضاف إلى هذين الجانبين من الجوانب الشكلية للقصيدة العباسية جانب آخر هو الصورة الشعرية، التي أفرط الشاعر العباسي في نقلها من استخدام الاستعارة، والكناية، والجناس، والطباق، كما عمد بعضهم أيضاً إلى التجسيم والتشخيص للمعنويات. ثم نأتي للفصل الرابع الذي كان عنوانه البنية الهيكلية للقصيدة في هذا العصر، وقد قسم هذا الفصل إلى مبحثين تناولت في أولهما إطار القصيدة، وقد كانت أطر القصيد في هذا العصر متـعددة منها القصائد، والمقطوعات، والرجز، وأطر أخرى كالمسمط، والمزدوج، ومما أوضحته هذه الدراسة في هذا الفصل، أن نظام القصيدة أخذ يتراجع وأخذ يطغى عليه نظام المقطوعة الشعرية، لأن غالبية شعر هذا العصر نظم ليُغنى به، وأن طبيعة العصر وحياة الناس لم تعد تسمح بالإطالة في القصائد، إلا إذا كانت قصيدة من الشعر الرسمي كالمدح أو التهنئة، أما عن الرجز فقد كثر النظم عليه وخاصة في الشعر التعليمي أو الأخلاقي، وشعر الطرد كذلك وقد تحدثت في المبحث الثاني من هذا الفصل عن عناصر بنية القصيدة وهي المقدمة والمطلع، ثم التخلص، ثم الغرض، فقد كان الشاعر القديم عادة ما يفتتح قصيدته بالمقدمة الطللية أو بالغزل والنسيب، أما في هذا العصر فقد دعا بعض الشعراء إلى الثورة على مثل هذه المقدمات، وطرحوا بدائل عنها منها المقدمة الخمرية، كما جاء شعراء آخرون بمقدمات أخرى كوصف الطبـيعة، ومنهم من دخل في غرضه مباشرة دون تقديم لذلك، وآخرون عمـدوا إلى المقدمة الحكمـية الوعظية كما أن بعض القصائد قـدم لها بمناسبتها، وعلى الرغم من كل هذا فإن المقدمة الطللية لم تندثر أو تختفي في أشعار هذه الفترة، وبالأخص في قصيدة المدح، وإن لوحظ أن الشاعر العباسي قد تخفف في كثير من قصائده من أصول المقدمة الطللية. وكان التخلص من موضوع لآخر أو من فكرة لأخرى في القصيدة العربية من أبرز العناصر التي عني بها النقاد، ودعوا الشعراء إلى الإحسان فيها في العصور السابقة لهذا العصر، وكان الأمر كذلك في هذا العصر؛ ففي قصيدة المدح نلاحظ أن الشاعر العباسي أصبح أكثر سلاسة في التنقل بين أفكاره دون أن يُشعر القارئ أو المستمع أن هناك تنقلاً قد حدث بالفعل، ولم يكن هذا حال كل الشعراء العباسيين، لأن منهم من عقّب العلماء على تخلصه في بعض قصائده بأنه لم يُحسن التصرف في هذا التخلص. وآخر عناصر بناء القصيدة في هذا المبحث كان الغرض أو الموضوع الشعري، وبما أن هذا العنصر سبق التطرق إليه في الفصل السابق، فقد اكتفيت في هذا الموضع بالإشارة إلى ذلك تجنباً للتكرار. أخيراً فإن أهم ما سجلته هذه الدراسة من نتائج، كان التأكيد على أن هناك تجديداً أصاب القصيدة العربية في هذا العصر، وأن هذا التجديد كان شاملاً للجانبين الشكلي والموضوعي، وأن دواعي ذلك التجديد كانت متشابكة سياسية، واجتماعية، واقتصادية كما أن هذه الدراسة عرّفت بأغراض الشعر القديمة التي طرأ عليها بعض التجديد في الشعر العباسي، وتعرضت كذلك للأغراض الشعرية المستحدثة. وكذلك فهذه الدراسة في أغلب فصولها تعد بمثابة المقارنة بين شكلي القصيدة العربية، الشكل التقليدي الموروث، والشكل المولد المحدث، يتضح ذلك من خوضها في قضايا مثل قضية الصراع بين القديم المحدث، وقضية الثورة على المقدمة الطللية. وبعد فإن هذه الدراسة تتبعت شعراء عاشوا في فترة تزيد على الثلاثة قرون من الزمان ؛ فكان الغالب على منهجها هو استشفاف الروح العامة التي اتسمت بها أعمال هؤلاء الشعراء في هذه الفترة.
سالم مُرجان الدبوس العبد(2009)

مذهب أبي العلاء المعري الشعري وأثره في الشعراء العرب القدامى والمحدثين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين سيدنا محمد الناطق بأفصح لسان، وأنصع بيان، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فقد عاش أبو العلاء المعري في النصف الثاني من القرن الرابع، وامتدت به الحياة إلى قبيل منتصف القرن الخامس ت ( 449 ) هــ، ومن المعروف أن القرن الرابع قد شهد تحولاً خطيراً في الفكر الإسلامي، فقد تركزت فيه جميع عناصر الثقافة العربية الإسلامية بروافدها المختلفة القديمة منها والحديثة، وطبيعي أن ينعكس ذلك كله على فكر أبي العلاء وأدبه، إذ كان الرجل نسيج وحدة في اللغة والأدب والفلسفة ولا نبالغ إذا قلنا إنه ما من شاعر استوعب أدب القدماء والمحدثين ولغتهم مثلما استوعب أبو العلاء المعري، ولذلك فقد أصبح شعره مجالاً خصباً لكل من جاء بعده يقرأه فيتأثر به، بدأ هذا التأثر واضحاً في الشرق والغرب معاً، وامتد هذا التأثر ليشمل عدداً من شعرائنا المعاصرين. أسباب اختيار الموضوع: دفعتني عدة أسباب لهذا الموضوع منها : دراسة مذهب المعري الشعري وما امتاز به عن غيره من الشعراء. معرفة مدى تأثر الشعراء العرب بالمعري في هذا مذهبه. أهداف الدراسة : تقوم دراستي هذه على بيان مذهب المعري الشعري وأثره في الشعراء العرب القدامى والمعاصرين ومعرفة أوجه هذا التأثر. الدراسات السابقة: لا أنكر أن هناك دراسات مختلفة في هذا المجال، ولكنّ هذه الدراسات منصبة في الرجل وأدبه ومن هذه الدراسات: الجامع في أخبار أبي العلاء المعري تأليف محمد سليم الجندي. أبو العلاء ولزومياته للدكتور كمال اليازجي. دراسات الدكتور طه حسين. دراسات الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) أبو العلاء المعري نسبه وأخباره معتقده للعلامة أحمد تيمور شاعرية أبي العلاء في نظر القدامى للدكتور محمد مصطفى بالحاج. النقد الأدبي الحديث حول شعر أبي العلاء المعري للدكتور حماد حسن أبو شاويش. المنهج المتبع: اقتضت خطة هذا البحث اتباع المنهج الاستقرائي والاستنتاجي والتحليلي الذي يعتمد على تحليل النصوص واستنباط أهم جوانب التأثير والتأثر.
راسم محمد الطيب الزقوزي(2009)

شعر الهذليين دراسة أسلوبية نقديـة ( في الإيقاع والتركيب والصورة )

لقد مثّل الشاعر الهذلي ظاهرة أسلوبية في الشعر العربي، هذه الظاهرة لها خصائصها وسماتها التي تميزها والتي تبدو واضحة جلية لمن يمعن النظر في هذا الشعر إيقاعاً وتراكيبَ وصوراً، فإذا كان الشاعر الهذلي ينهل من معين الشعر العربي في عمومه ـ فإن له مجالاً من الاختيار يمكّنه من طبع أشعاره بخصائص تتناسب وطبيعةَ تجاربه وظروفَ حياته وبيئته. ولقد كانت النصوص الشعرية وسيلتنا للوصول إلى هذه الخصائص، حيث انطلقنا من لغة هذه النصوص دارسين: الإيقاع والتراكيب، والصور، وتوصلنا إلى نتائج مختلفة كان أهمها: أولاً ـ على مستوى الإيقاع : الشعر الهذلي ـ كغيره من الشعر العربي ـ يُنظَم على أوزان تتناسب وأحوالَ النفس، فلكل غرض ما يناسبه من الأوزان، فإذا وجدنا أغراضاً متناقضة منظومة على بحر واحد بحثنا عما داخل هذا البحر من موسيقى داخلية تُخرِج البحر عن إيقاعه الظاهر، وتُحدِث توقيعاتها أنغاماً خفية تتناسب مع الحالة التي يعانيها الشاعر. وكانت أشعار الهذليين تدور في إطار ستة بحور شعرية لا تكاد تتعداها، هذه البحور هي على الترتيب الطويل، والوافر، والبسيط، والكامل، والمتقارب، والرجز. وبحر الكامل الذي احتل الترتيب الرابع من حيث عدد أبياته اقتصر استخدامه على شاعرين هما: أبو كبير، وساعدة بن جؤية، كما انفرد بغرض شعري واحد هو شكوى الزمن والشيب. أما الرجز فكان عند قدماء هذيل ـ كما هو عند غيرهم من الشعراء القدامى ـ أبياتاً قليلة يلقي بها الشاعر وغير الشاعر وقت الانفعال وفي أثناء القتال، ولكنه تطور عند مليح بن الحكم الشاعر الهذلي الأموي ؛ ليحاكي بقية الأوزان من حيث الأغراض التي نظمت عليه، ومن حيث عدد أبياته التي طالت، لكننا لا نعد ذلك خروجاً عن عموم الشعر العربي في زمانه وإن كان انحرافاً واضحاً عن الشعر الهذلي ؛ لأن الرجز تطور في عصر بني أمية حتى نافس القصيد في أغراضه ؛ ولهذا نعد مليح بن الحكم الهذلي من الشعراء الذين أسهموا في تطور الرجز في عصره. من خلال دراسة الوزن والقافية دراسة إحصائية تبين لنا أن وجود عدد ضخم من المقطوعات والقصائد القصيرة في الشعر الهذلي لا يُعَدُّ ظاهرة أسلوبية تميز الشعراء الهذليين عن الشعراء العرب القدامى، ولكن ذلك راجع إلى أن شعر الهذليين لم يصل إلينا كاملاً. عند النظر في قوافي الشعر الهذلي وجدنا أن القاعدة العامة أن تكون القوافي مطلقة، وكان مجيء بعض القوافي المقيّدة يمثل عدولاً عن هذه القاعدة في الشعر الهذلي كما هو الحال في عموم الشعر العربي ؛ لكن لهذا العدول في الشعر الهذلي أسبابه ومسوغاته، فقد تقع القافية المقيدة في بحر الرجز، وهو بحر يقترب من النثر المسجوع فيتناسب مع هذه القافية السهلة التي لا تتطلب جهداً من الشاعر كالذي تتطلبه القوافي المطلقة التي يلتزم رويها حركة واحدة، وقد تقع القوافي المقيدة في بقية البحور، ووقوعها في بقية البحور لم نره ـ في شعر الهذليين ـ يقلل من قيمة الإيقاع ؛ لأن الإيقاع لا يكمن في الروي وحده معزولاً عن بقية البيت، ولقد وجدنا في كل قافية مقيدة أسباباً أخرى تقوّي الروي وتكسبه موسيقى لا تقل عن تلك التي نجدها في القوافي المطلقة، وهذه الموسيقى مصدرها: إمَّا البحر الشعري الذي نُظِمَتْ عليه القوافي المقيـَّدة وإما صفة الحرف الواقع روياًّ أو صفة الحرف الذي قبله، وإما يكون مصدر هذه الموسيقى إيقاع الكلمات التي تتركب منها الأبيات ودلالاتها. ومما يتصل بموسيقى الإطار ما يُسمى بالتضمين العروضي الذي وجدناه شائعاً في شعر الهذليين إلى الحد الذي يجعله سمة أسلوبية تميز أشعارهم، ولقد وجدنا هذا التضمين يؤدي دوراً مميزاً في بناء هذا الشعر بحيث يسهم في: تلاحم التراكيب النحوية، وإثراء الدلالة وتنوعها، ثم رسم الصور البيانية، مع الحفاظ على موسيقى الإطار بإكمال البيت بالوقف على لفظة القافية، فلم يكن التضمين في أشعارهم من النوع الذي يجعل الافتقار محصوراً في لفظة القافية فيحول دون الوقف عليها لتتلاشى فيما بعدها وتضيع قيمتها النغمية. وحين تركنا الإطار لنغوص في حشو البيت الشعري ـ وجدنا موسيقى ناتجة عن التكرار بأشكاله المختلفة، وكان هذا التكرار يؤدي وظيفة مزدوجة في الشعر الهذلي، تمثلت هذه الوظيفة على مستوى الإيقاع وعلى مستوى الدلالة فعلى مستوى الإيقاع كان تكرار الأصوات المتشابهة والمقاطع المتوازنة داخل البيت الشعري يزيد من موسيقاه، ويطبعه بطابع خاص يزيل رتابة الإيقاع الثابت للوزن والقافية ؛ فتتكيف الأوزان بما يتلاءم وطبيعة النفس الشاعرة، وتختلف الإيقاعات باختلاف تموجات هذه النفس، فتخف الأوزان الرزينة إذا كانت النفس طرِبة لفرح أو ترح، وتثقل الأوزان الخفيفة إذا كانت النفس هادئة متأملة، أما على مستوى الدلالة فإن للألفاظ بل للأصوات المكررة معاني لابدّ أن يكون للتكرار دور في: جلائها وتبيينها، أو توكيدها وتقريرها، أو تلاحمها وتداعيها. ومن ناحية أخرى كان للتكرار أثره على المتلقي الذي ينفعل بالإيقاع والدلالة ؛ ليشارك الشاعر عملية الإبداع، ويسهم بتوقعه أو بتفاجئه في بناء النص والتجاوب مع تجربة الشاعر. كما وجدنا شعراء هذيل الأمويين يحرصون على إخضاع أشعارهم لأنماط معينة من التكرار ؛ كي يلائموا بين شعرهم والغناء الذي شاع في البيئة الحجازية في ذلك العصر، فطغت الناحية الإيقاعية على الجانب الدلالي، ومع ذلك ظل لما تكلفه الشاعر الهذلي الأموي جذور في الشعر الهذلي القديم، وإن كان شعرهم القديم خالياً من التكلف وكان إيقاعه انعكاساً لأحوال نفس الشاعر. ثانياً ـ على مستوى التراكيب: لعل أهم ألوان التصرف التي تتسع لها الجملة في اللغة العربية تتمثل في: التقديم والتأخير، والاعتراض، والحذف، وقد شكل هذا التصرف قيماً أسلوبية في شعر الهذليين على النحو التالي: فمن ناحية التقديم والتأخير رأينا قيماً معنوية وراء كل بناء عُدِل به عن أصله، فضلاً عن القيم الإيقاعية. ولم يكتفِ الشاعر الهذلي ـ في تكييفه التراكيبـ بالإمكانات المتعارف عليها المتاحة وفق قواعد اللغة، بل لجأ ـ أحياناً ـ إلى تراكيب غير مألوفة محاكياً الشاذ والنادر، منتهكاً القيود المعيارية وهذه الانتهاكات يشعر بها المتلقي شعوراً واضحاً بمجرد تلقيها، وإن صدرت بتلقائية عن الشاعر. أما الاعتراض بجمل مختلفة بين أجزاء الكلام الذي تملي قواعد اللغة اتصاله ـ فقد شكل سمة أسلوبية في الشعر الهذلي، ولم يكن هذا الاعتراض حشواً زائداً لا فائدة له إلاّ إقامة الوزن، بل كان له دوره معنىً وإيقاعاً، ومثّل حالة من حالات امتلاك الشاعر الهذلي زمام اللغة التي كان يخضعها لتجربته، وينسج منها ما شاء من تراكيب تنقل انفعالاته نقلاً صادقاً. أما الحذف فقد تنوع بين حذف مطّرد مألوف في كلام العرب وأشعارها، وحذف نادر قليل، منه: حذف الفاعل، وحذف المضاف إليه، وحذف "لا" النافية مع الماضي التام في غير سياق القسم. وقد غلب حذف "لا" النافية وفق الشروط التي وضعها النحاة على شعر الهذليين حتى صار الحذف كأنه أصل في كلامهم ؛ وبهذا أصبح الاضطراب في نظام اللغة انتظاماً جديداً. وكان لكل نوع من أنواع الحذف قيمة أسلوبية تختلف باختلاف السياقات والأحوال، فضلاً عن القيم العامة للحذف المتمثلة في: الاختصار، وتخليص العبارة من الثقل والترهل بذكر ما يدل عليه السياق، وإشراك المتلقي في العملية الإبداعية حين يتحرر من قيود العبارة المحددة بألفاظ ثابتة ؛ ليكمل العبارة الناقصة بألفاظ مناسبة تتكاثر بها الدلالة وتتعدد بتعدد المتلقين. ثالثاً ـ على مستوى التصوير: كانت المرأة لدى شعراء هذيل جاهليين ومخضرمين ـ رمزاً يستدعيه الشاعر من موروث غابر عن وعي أو عن غير وعي، هذا الرمز يخفي وراءه دلالات لا تُدرَك إلاّ بالبحث في البنى العميقة الكامنة وراء الصور الظاهرة. علاقة المرأة بالخمر والعسل تقليد معروف في الشعر العربي، ولكنه في شعر الهذليين ـ جاهليين ومخضرمين ـ يكتسب سمات أسلوبية تميزه، فهي علاقة مرتبطة بالعمل الشاق المضني من أجل الوصول إلى الغايات السامية المقدسة ؛ لذا فإن المرأة تتسامى ـ في هذه العلاقة ـ عن أن يقصد الشاعر مجرد وصف ثغرها بالعذوبة وطيب الرائحة، وتتسامى الخمر عن أن تكون خمر سكر ولهو، ويتسامى العسل عن أن يكون مجرد مصدر واقعي لصورة مألوفة في حياة الهذلي. اختلفت صورة المرأة لدى شعراء هذيل الإسلاميين عنها لدى شعرائهم الجاهليين والمخضرمين، وإن كانت عناصر الصورة موروثة، إذ تفنن الشاعر الهذلي الإسلامي في إخراج الصورة في شكل جديد مفاجئاً المتلقي بعكس توقعه حيناً، عامداً إلى إلحاق الأصل بالفرع حيناً آخر، واختفت رحلة الخمر واختفى عمل النحل، لكن فكرة الرمز لم تغب عن وجدان هذا الشاعر وخياله، إذ ظل اللاشعور يقذف صوراً مليئة بدلالات وإيحاءات موروثة، بدا فيها الربط بين: ريق المرأة، وصفاء الماء، ونشوة الخمر، ولذة العسل بما يختفي وراء كل ذلك من معانٍ عميقة تتجاوز البنى الظاهرة. كان وجود المرأة الواقعية قليلاً في الشعر الهذلي، لا يتعدى مقطوعات قصيرة، كانت المرأة فيها مهجُوّة في شعر الجاهليين والمخضرمين، ومتغزَّلاً بها في شعر الإسلاميين. حرص الشاعر الهذلي على رسم صورة للرجل الذي يرافقه، وأسبغ عليه صورة الرجل المثال، وهذا شكّل سمة أسلوبية ميزت شعراء هذيل. تشبيه الشاعر نفسه ـ في عدْوه ـ بحمار وحشي مثّل سمة أسلوبية اختص بها الهذليون، وفي هذه الصورة يلجأ الشاعر الهذلي إلى طرق في التشبيه تتقارب فيها المسافات بين المشبه والمشبه به، لتمتزج تجربة فرار البطل بتجربة فرار الحمار الوحشي الذي هو معادل موضوعي للشاعر. صوَّر الشاعر الهذلي الجاهلي والمخضرم حيوان الصحراء المعروف بسرعته ـ تصويراً شكّل انحرافاً عن النمط الشائع في التصوير، فلم يأتِ هذا الحيوان مشبهاً به ليرسم الشاعر ـ من خلاله ـ صورة لسرعة ناقته بما يختفي وراء هذه الصورة من دلالات عميقة، بل أتت صورة هذا الحيوان في سياق حديث الشاعر عن حدثان الدهر الذي لا يبقي على شيء، والذي لا تملك الكائنات أمامه سوى الإذعان ؛ لذا وردت هذه الصور في مقام الرثاء الذي غلب على شعر الهذليين. لم يُعنَ الشعراء الهذليون بتصوير الخيل، وما جاء من ذلك لدى جاهلييهم ومخضرميهم جاء صورة ثانوية في غضون المثل الذي يُضرَب لما لا يصمد أمام حدثان الدهر، ولكن الصورة كانت مليئة بدلالات وإيحاءات ؛ لذا كثيراً ما خالف الوصف الظاهر الصورة المثلى للخيل ؛ لأنه يحمل دلالات عميقة تتناغم في مجملها مع الصورة الكلية إذا قُرِئت وفق هذه الدلالات العميقة. رابعاً ـ انفراد بعض شعراء هذيل بسمات أسلوبية: انفرد بعض شعراء هذيل بسمات أسلوبية، فشكّل تفردهم هذا انحرافاً أسلوبياً عن بقية الشعر الهذلي، وأهم هؤلاء الشعراء: أبو ذؤيب: فقد انفرد أبو ذؤيب بحذف المضاف إليه، وبحذف المنادى، وقد عد علماء اللغة هذين الحذفين من قبيل القليل في اللغة ؛ لذا شكل أبوذؤيب بهذا انحرافاً عن الشعر الهذلي وعن عموم الشعر العربي. استخدام الأعلام سمة أسلوبية اختص بها أبوذؤيب من بين شعراء هذيل، والأعلام في الشعر تحمل في طياتها أبعاداً ثقافية، وترسم صوراً خيالية، فهي تتجاوز الإشارة إلى الإيحاء. انفرد أبوذؤيب بإبراز المرثي في صورة الرجل الذي يتمتع بقدرة على استمالة قلوب النساء بحديثه، وهي صورة غير مألوفة للمرثي في عموم الشعر العربي. أبوخراش: انفرد أبوخراش بذكر العُقاب في تصوير عدْوه وهي صورة لم تُعهَد في عموم شعر العدَّائين. كما انفرد بتصوير الخوف في نفس الظبـي حين بدا ناصباً أذنيه مصغياً لصوت سهام الرماة، وخلفه الكلاب، فكأن أذنيه قد قُطِعتا لعدم تحركهما، وهذه صورة دقيقة ترسم هيئة السكون. صخر الغي: صورة الخيل التي يتمكن فرسانها من حمر الوحش صورة انفرد بها صخر الغي من بين شعراء هذيل فعادةً ما يتمكن الصائد المتربص ليلاً من الحمر لدى غيره من شعراء هذيل، لكن إحدى مرثيات صخر الغي شكَّلت انحرافاً عن النمط الشائع، فالحمر تلقى حتفها بواسطة فرسان من ناحية، ويكون ذلك مع الإصباح من ناحية أخرى، والحمر من حيث العدد اثنان وليس حماراً واحداً وأتنه، وهذا نوع آخر من الانحراف، وكل هذه الانحرافات ـ لاشكّ ـ شكلتها خصوصية التجربة. أسامة بن الحارث: مثّل أسامة بن الحارث في تصوير حيوان الصحراء المعروف بسرعته ـ مرحلة انتقال بين خلوص الصورة لحدثان الدهر وربطها بالناقة، حيث ربط بين صورة هذا الحيوان وحدثان الدهر وما يتصل به من فراق ناتج عن الهجرة لا الموت ؛ وبذلك حاكى النهج الهذلي الموروث من ناحية، ومن ناحية أخرى ربط صورة هذا الحيوان بالناقة حين شبهها بالحمار الوحشي في سرعته، منحرفاً عن الشعر الهذلي، محاكياً الأصل المعروف في عموم الشعر العربي. أبوصخر: أخلص أبوصخر الهذلي ـ الشاعر الأموي ـ لتقاليد الشعر العربي في زمانه في تصويره الناقة، التي كانت وسيلة تبلِّغه ممدوحه سواء أكان السياق سياق مدح أم رثاء. وأخيراً نقول: لقد تعددت الدراسات التي تتناول شعر الهذليين وتنوعت تبعاً لمنطلقات الدارسين واتجاهاتهم، وظل الشعر الهذلي معيناً لا ينضب، يستطيع من شاء من الدارسين أن يكشف جوانب أخرى في هذا الشعر. ولقد حاولنا في هذه الدراسة أن نسهم بإضافة لبنة في صرح هذه الدراسات، وذلك بإماطة اللثام عن كثير من الخصائص الأسلوبية التي تميز بها الشعر الهذلي، ولاسيما فيما يتعلق بالبناء الإيقاعي والبناء التركيبـي. ونحن إذ نقدِّم هذه الدراسة لا ندَّعي الكمال، ولكننا نرجو التوفيق من الله تعالى، فإن وُفِّقنا فهو ما نرجوه، وإن أخطأنا فحسبنا أننا أخلصنا النية وصدقنا العمل وما التوفيق إلاّ من عند الله.
زكيـة خليفــة مسعـود(2008)

دلالة التكرار والرَّمز في شعر الشابي

أبو القاسم الشابي شاعر تونسي لم تكتب له الحياة في سجلها إلا خمساً وعشرين عاماً غادرَ الدنيا بعدها تاركاً ديواناً من الشِّعر، ومن الجلي بالذكر أنَّ ديوانه مرآة تنعكس عليه صُور حياته وكوامن نفسيّته بكل ما فيها من حُبّ ووفاء، وحُزن وفرح، وغضب وثورة. ولقد كان ارتكاز البحث الأساس على ديوان الشاعر الذي يضم مائة وسبع قصائد، منها قصائد للوطن، والثورة، والحُبّ، والطفولة، والموت، والحياة، واللَّيل، والحُزن، والكآبة، والكون، والوجود، والقلب. فبعد الاطلاع عليه ودراسته مستعينة بما كُتب عنه حاولت قدر المستطاع أن أُعطي القارئ صورة حيّة متكاملة لدلالة التكرار والرَّمز في شعر الشابي. ولعل أبرز سِمة يتميّز بها الشابي عذوبة الآراء في شعره بانسياب موسيقاه، بتخيّر ألفاظه، بتلوين صُوره، بالتعبير المباشر عن عواطفه الحزينة، فتجربته وليدة التأمّل والتنصّت العميق لرعشات النَّفس والطبيعة، لم يُقحم عليها البيّنات والأدلة لينيط بها صفة اليقين، ويقنع بها، ويؤكد عليها، فالتجربة الشابيَّة مقنعة بذاتها تلتصق بالوجدان وتلازمه، وتصعقه في بكارتها وعفويَّتها العميقة، ورؤياها النَّافذة. ولقد تجلّت نتائج البحث في أهـم النقاط الآتية : - إ نَّ التكرار سمة غالبة في شعره، يكشف عن البناء الفنِّي الدَّقيق الذي أنتجته عبقريّة الشابي في النَّص الشِّعري، حيث ورد في اتجاهين: الأول رأسي، والثاني أفقي، كل ذلك يجعل منه أداة جماليَّة تخدم النَّص الشِّعري، فتمنحه القوّة والفاعليّة والتأثير، وتعكس ملامح رؤيته النَّفسيَّة والفلسفيَّة، وتكشف عن موقفه الحقيقي من الحياة والكون والطبيعة من خلال سياقات وبناءات أسلوبيَّة متنوّعة على مستوى الحرف، والكلمة، والعبارة، والموضوع الشِّعري، والمعنى، والصُّورة. من الموضوعات الرئيسة التي قام عليها شِعره تناول الطبيعة في جمادها ونباتها وطيرها وكل عناصرها ومظاهرها، فضلاً عن الحُبّ النَّامي بين أحضانها، فامتزج في نفسه بالخواطر الواجفة المستوحشة التي شيّع فيها جنازة العالم، وخلع عليه أكفان الحداد، ونعى على أبنائهم زوالهم، ودعاهم إلى مُعانقة الموت المُنقذ والمحرّر إذا تصفّح القارئ الدِّيوان فإنَّهُ سيجد قصائد تحمل عنوان القلب هذا بالإضافة إلى امتلاء قصائد الدِّيوان كلها تقريباً بهذا الموضوع، وذلك نتيجة لإصابة الشاعر بمرض تضخّم القلب حتى ليصعب على القارئ أنْ يقرأ له قصيدة تخلو من كلمة قلب أو فؤاد، فكانت له قدرة كبيرة على العطاء الفنِّي وهي متلازمة مع إحساسه بخطورة المرض الذي اكتوت به جوانحه، وتلك هي أزمته، فقد وصل إلى إحساس بالفناء وهو لمْ يزل بعد على قيد الحياة، فالحياة التي أرهقت قلبه بالحُبّ سدّدت إلي وجيب ذلك القلب طعنة قاتلة حين اكتشف بأنَّه أضعف من أنْ يحمل بنيانه، ويجعله إنساناً سويّاًَ كالآخرين، وكان مجرّد تصوّر هذا الشيء بالنّسبة إليه حكماً بالإعدام قيد التنفيذ يجعله صارخاً جريحاً. أحسَّ الشابي أنَّ الموت قريب فخط، وهو في انتظار هذا الضَّيف الثقيل منصبّاً في كثير من العُمق على الكتابة أجمل أشعاره، رسم فيها حيرته وقلقه، وعبّر فيها عن هذا التبرّم بالحياة التي تهرب منه، حتى أتاه الموت في 9- 10- 1934 والذي حمله بعد ذلك إلى عالم الأبد في ريعان الشَّباب وشباب الشَّاعريَّة، فجعل شِعره محوراً من محاور تجربته المرضيَّة. كان الشابي سوداوي المزاج قانطاً من الرَّجاء و السَّعادة، وقد تطبَّع شعره بطبائع نفسيَّة، واغترف من معين الانفعالات الذي كان يفيض فيها، فأضاف على فنّه الشِّعري مسحة من اليأس الممزوج بالأسى والحزن، والتي يشعر حيالها القارئ بأرق الشاعر وقلقه واضطرابه النَّفسي الذي تسربلت فيه الذَّات، ملوّناً العالم بألوانه القاتمة، مبدعاً أجواء خاصة به تبدّلت بها المفاهيم والمظاهر، وحلّ من دونها عالم شُعُوري قائم بذاته. لمْ يجدْ الشاعر في زوجته الصُّورة الشَّاعريَّة التي رسمها في شِعره للمرأة، ولهذا اتجه بحبِّه إلى امرأة خياليَّة فتراوح الحُبّ في شعره بين التعبير الكتابي والشَّقاء البدني، وبين الشَّدة والرَّخاء، هذا التراوح تعبير عن الحيرة والارتباك، وفي الوقت نفسه تنويه بأزمة يعيشها الشاعر، وربما كان هذا عائداً إلى شُعور نفسي دفين عالق في أعماق نفسه. وفي البيئة الاجتماعية رأى الشابي من حوله مجتمعاً مريض الجسد والرُّوح مستسلماً للاستعمار والرجعيَّة والتَّعاسة والبُؤس، وأعلن بجرأة وحماسة في شعره، وأخذ يستنهض هِمَم شعبه ويحفّزه للنِّضال، ويضمُّ جوانحه على الألم، وهو يحطِّم الحواجز والسُّدود، وكأنَّه ناصح حكيم في هدوء واتزان، وفي جمل قصيرة دليل على القوّة، والعزم، والثقة بالنَّفس. لقد تبيّن استخدام الشابي الشاعر المعاصر للرَّمز، ومدى تفنّنه في انتقائه بإبراز الجمال الرَّمزي في شعره الذي يكمن في طابع الغُموض الذي يُلابسه، مبيِّناً باستجلاء أسباب وجوده قيمته التعبيريَّة، فنوّع في إظهاره للرَّمز الدِّيني، فاستحضر رموز دينيَِّة كآدم، وبلقيس، والنَّبي، والإله وغيرها من ألفاظ المعجم الدِّيني، مؤكداً قضاياه الفكريَّة وقيمه الروحيَّة، مستغلاً الإيحاءات الدينيَِّة لتلك الرُّموز والألفاظ، والرُّمز الأُسطوري كرمز بروميثيوس، وفينيس، وأفروديت، وإرم، منفتحاً على الموروث الثقافي الإنساني في بُعده الأسطوري، موضحاً بالدَّرجة الأولى قدرته على الاقتناع بذلك الرَّمز، معبِّراً عن التجربة، ليتحوّل إلى جزء من مشاعره وأخيلته، والرَّمز الاجتماعي كرمز اللَّيل، والفجر، والصَّباح، والحُلم، والرَّبيع، والخريف، والإنسان، معبِّراً باستحضار هذه الرُّموز عن حبِّه الجمّ للطبيعة بفصولها الأربعة، كما عبَّر بهذه الرُّموز عن قلقه واضطرابه في العديد من المواقف، فكانت رُموزاً بالغة الدلالة، والرَّمز الزَّماني باعتبار الزَّمن في شعر الشابي عنصراً مساهماً في الغُمُوض، فنراه مجدِّداً فيه بين وحداته الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، ورمزي الوجود والدَّهر، متسائلاً متحيّراً، والرَّمز المكاني والذي بدوره أبرز أهم الأماكن التي تدور في عقل ومخيّلة الشاعر كبلده تونس، والمدينة، والغاب، ولكل منهم دلالته وتعبيره عمَّا يدور في خاطر الشاعر من ارتفاع فوق خصوصيّة المكان ومحدوديّته. حضّ الشاعر باستخدام رمز الإنسان أنْ يفعل أفعاله بفعله، وأنْ يحيا وفقاً لاقتناعاته، وأنْ يتحرّر ويتجدّد، مجارياً الطبيعة في تغيّرها وتجدّدها، وهو هنا من دعاة الثورة والتمرّد، إلا أنَّه يصدر في ذلك عن بواعث روحيَّة نفسيَّة، فهي محاولة شاملة في النَّفس والوجود لمعانقة الحقيقة التي هي السَّعادة الفعليَّة. إنَّ الشابي لمْ يختر تجربته، لأنَّه لم يكن له خيار في وعيه الفاجع لواقع الحياة، لهذا لمْ تستحل تجربته إلى حكمة باهتة، وإنَّما تفتحت في صور بدلاً من الفكر في رموز مستمدِّة من الطبيعة الأُمّ التي رضع الوحي من أثدائها، ولم يقوَ على مغادرة أحضانها الرَّءُوم. لقد تأثَّر الشابي بشعراء العرب القُدامى أمثال عمر بن أبي ربيعة، والمتنبي، وأدباء العرب الكبار أستاذه جبران خليل جبران، كما تأثَّر بأدباء الغرب كالفرد دي موسيه، ولامارتين، و وردزورث، وقد استطاع أنْ يستقي من هذه التأثيرات النّمير الذي صقل ذهنه، وأطلق خياله، ولقّح أفكاره بلقاح المعرفة الواسعة لمظاهر الحياة المتعددة الجوانب من فلسفة، وسياسة، وفنون، وعلوم وآداب، فلم يكن الأدب عند الشابي تسلية فراغ، وإنَّما هو رسالة سامية وقوّة تدفع بالكثرة الكاثرة إلى الأمام، طلباً لحياة أفضل، وقيم اسمى. يطغى على قصائد الدِّيوان من حيث الشكل الطابع التقليدي المحافظ بأوزانه وإيقاعاته وقافيته، وقد وجد البحث أنّ أغلب قصائد الدِّيوان قد بُنيت على بحر الخفيف الذي ورد في تسع وعشرين قصيدة، ويأتي بعده بحر الرمل الذي أتى على وزنه ست عشرة قصيدة، ويأتي بعده بحر المتقارب، والبسيط، والطويل، والمتدارك، والمضارع، والرجز، والمجتث، والسريع. أما حروف القافية فكانت حروف الدال، والميم، والباء، والراء، والهاء، والنون، والسين، والتاء، واللام، والقاف، والهمزة، أكثر استعمالاً في عدة قصائد، وكل من حروف الحاء، والفاء، والثاء جاء رويَّاً لقصيدة واحدة. اتخذ الشابي من التصوير الشِّعري في معظم قصائده وسيلة جوهريَّة لاستكناه تجربته الشِّعريَّة تجاه موقف أو موضوع محدّد، وذلك لخياله الواسع وعينه اللاقطة، وذاكرته المحافظة، لأنَّ فضيلته في شِعره هي عندما يصفو ويتكامل هي فضيلة اتحاد الانفعال البصير بالخيال في لحظة يعسر بل يستحيل تفسيرها وتصنيفها، حيث تولى خياله إظهار انفعالاته، موحّداً بين الشَّيء وما يماثله، فخياله هو خيال مبدع مصوّر، يحتضن الانفعال يتغذَّى منه ويغذيه، ويتقوّى أحدهما بالآخر، ليطلّ على نافذة الحُلم الشِّعري الكبير الذي تشف به طينة الأشياء والعالم، ويطلعنا فيما وراء كثافتها أطياف روحيَّة لطيفة حيَّة، يؤديها في فلذات قاطبة موجزة عميقة. تمثلت الدلالة التصويريَّة في شعر الشابي في التصوير البلاغي عند النواحي البلاغيَِّة، وبالخصوص التشبيه والاستعارة، مدركاً الجوانب المعنويَّة برؤيته الجماليَّة الواقع، فاضطرّ إلى التعبير عن إداركه أو تصوير رؤيته بنفس الكلمات الدَّالة على الأشياء الحسيَّة، لأنَّ اللغة في هذه الحالة تقصر عن تلبية حاجاته والوفاء بمطالب إدراكاته، ورؤيته الجماليَِّة، ولذلك يستخدم نفس كلمات اللغة في سِياقات جديدة على سبيل التشبيه والاستعارة، فنرى الصُّورة تفضل غيرها بقدر ما فيها من الدلالات والإيحاءات، وتدل على مدى توفيق الشاعر في صياغة موقفه مهما كان نوع الصُّورة أو مهما كانت مصادرها التخيليَّة، وقد يكون التشبيه أكثر تصويراً من الاستعارة في سياق محدود والعكس صحيح، وليس معنى تفضيل الاستعارة على التشبيه عجز التشبيه عن أداء دوره، وإنَّما لمرونة الاستعارة وتخطيها للعلاقات المنطقيَّة في الواقع وفي اللغة، فالشابي قدّم من خلال تشكيله الاستعارة علاقات نفسيَّة في حين لكل صورة مهما كانت حسيَّة أو نفسيَّة دلالات رمزيَّّة تفهم من سياقها، ولقد أدخل الشابي التشخيص ضمن إطار التصوير الشِّعري، منوّعاً في تصويره من تشخيص الأفكار والمعاني المجرَّدة، وتشخيص مظاهر الطبيعة الجامدة، مبدياً عبقريّته في تناوله كلوحة جميلة رائعة تنسجم فيها الأضواء والضلال. اصطفى الشابي في معظم قصائده الأسلوب الذي يناسبه ويتفق مع رؤيته الحياتيَّة الخاصة، كانتقائه للألفاظ والصِّيغ والجُمل والتعابير، فكانت صدى لما في نفسه من اضطراب وقلق وحيرة، أو إحساس بالفرح، والسُّرور، والبهجة، معتمداً في توظيف هذه الألفاظ، والجُمل، والتعابير على التكرار والرَّمز، فكان في كل بيت وكل نغمة من نغماته مزيج من العبقريَّة والإلهام والصَّفاء والإشراق، وقوّة خلاقة مبدعة تصوّر الكون والحياة في قوّة عجيبة وإبداع ساحر، وذلك سِرّ خلود شعره، وامتلاكه للنُّفوس والقلوب، فتبيّن أنَّ أسلوبه رائع وقويُّ ينساب في بساطة وعفويَّة رصينة، بساطة من أدرك موضع اللفظ، ومدى قوّته التصويريَّة والموسيقيَّة، فتدفقت شاعريّته في سماحة ويُسر، وتلك صفة لا ينالها إلا من عاش معنى اللفظ وأحسّ بما فيه من رصيد شُعوري لا يقوم على الرَّنين اللفظي الذي يأسرالآذان، ولكنَّه يقوم على العاطفة المتقدّة إلى أعماق الوجدان. من هنا لابُدَّ من التذكير بأنَّ العُمر الشِّعري لهذا الشاعر لم يتجاوز سنوات قليلة و ذلك هو مظهر القوّة والآصالة، فهو رغم عُمره القصير استطاع أن يكوّن وحده مدرسة لها طابعها الواضح القوىّ العميق. ولقد بذلتُ جهدي في أنْ أُعطي للقارئ صورة واضحة المعالم كاملة الخطوط عن دلالة التكرار والرَّمز في شعر الشابي، وأخيراً أرجو أن أكون قد وفّقت في عرض هذا الموضوع بما يتناسب مع متطلباته، وإلى إيضاح جوانبه بأكمل صورة، ولا يزال شِعر الشابي أرضاً خصبة لدراسات أخرى مختلفة في جوانب متعددة اقترح منها دراسة ظاهرة التساؤل المُلح في شعر الشابي والتي وردت في العديد من القصائد. كما اقترح دراسة الطبيعة الجامدة والمتحرِّكة التي صاحبت معظم قصائد الشابي، وكانت جزءاً من روحه، وعقله، وحسّه، ووجدانه. وعلى أيّة حال سيظل أبو القاسم الشابي شاعراً كبيراً، وشُعلة خفَّاقة في سماء الشِّعر والتي كتب لها الخلود رغم الدَّاء والأعداء بمبادئه وآثاره، ولا تستطيع قلوبنا تلقاءه إلا الدُّعاء له بالرَّحمة والغُفران، ولستُ أدعي أنِّي قمتُ بشيء نحو هذه العبقريّة الشابّة، وإنِّي لأشعرُ حقاً بعجزي المطلق أمام هذا الفنّ الخالد الذي تركه الشاعر، فإلى روح أبي القاسم تحيّات الإجلال والإكبار.
كلثوم رمضان إرحيمة القماطي (2008)

الوصف الفني في شعر ابن المعتز

خصّصت هذا البحث لدراسة الوصف الفنّي في شعر ابن المعتزِّ، بهدف الوقوف على أوصافه المتميّزة، للطّبيعة وما فيها من نباتات وأزهار، وحيوانات وطيور، وكذلك أوصافه للظواهر الطبيعيّة المختلفة، من هلال وقمر، وشمس ونهار، وصبح وليل، وسماء وأرض، وماء وثلج وسحاب، إلى غير ذلك. ثمَّ وقفت على أشعاره الوصفيّة في الصّيد والطّرد، وكذلك أشعاره في الخمر وما يتّصل بها، وتناولت كلّ ذلك بالدّراسة والتحليل والنّقد. وإنّ ابن المعتزّ قد أبدع وأجاد في ميدان الوصف، واشتهر به شهرة جعلت الشعراء والأدباء والنّقّاد يشيدون بذكره في عصره وبعده، ويستشهدون بأشعاره في دراساتهم المختلفة. وبعد هذه الرحلة الممتعة في دراسة هذه الأشعار خلصت إلى عدّة نتائج، كان من أهمها: يعتبر ابن المعتزّ من أبرز الشّعراء الذين اهتمّوا بوصف الطّبيعة، ومناظرها المتعدّدة، والظواهر الطّبيعية المختلفة، فكانت أشعاره فيها ميداناً رحباً أبدع فيه وأجاد، فقد وصف أغلب ما وقعت عليه عيناه، في سلاسة أسلوب، ودقّة معانٍ، وروعة خيال، وفي هذه الأوصاف ما يدلُّ على أنّه نظم الشّعر إرضاءً لنفسه، لا تكسُّباً أو إرضاءً لغيره. ولع ابن المعتزِّ بالصّيد والطّرد شأنه في ذلك شأن الخلفاء والأمراء وعلية القوم، فمارس هذه الهواية، وانعكست على أشعاره، وجاءت مليئة بالأوصاف الجميلة والتّشبيهات الرّائقة، لكلِّ ما يدور في ميدانه، أوصافٍ تنمُّ عن دقّة الملاحظة وسعة الخيال. يعتبر ابن المعتز أوّل من جعل الخمر فنّاً مستقلاً، فنظم فيه أكثر ممّا نظم في غيره، وجاءت أشعاره فيه على درجة عالية من الجودة وحسن البيان. يبحث ابن المعتزّ عن الجمال دائماً في أوصافه لدرجة أنّه يخرج الأشياء التي قد لا تلفت انتباه الآخرين، في صور جميلة جذّابة، تجعلها أجمل ممّا هي عليه. طفحت أشعار ابن المعتزّ بالألوان الكثيرة، الأمر الذي أضفى على هذه الأشعار جمالاً وحسناً، فحريٌّ أن تدرس جماليّات الألوان في شعره، وتأثيرها فيه. تأثّر ابن المعتزّ بحياة التّرف والنّعيم التي كان يحياها، وبعوامل الحضارة التي كان يعاصرها، فاكتضّت أشعاره بألفاظ المعادن الثّمينة، والأحجار الكريمة، ممّا يؤكّد رغد عيشه، وأنّ حياته لم تكن كلّها بؤساً وشقاءً، بل أغلبها نعيم وترف. إنَّ مظاهر الأسى والحزن التي ظهرت في بعض أشعاره أغلب الظنّ أنّها نتيجة لفقده عرش الخلافة، التي تولاّها من هو أدنى منه مقاماً. نسج شاعرنا على منوال الأقدمين في كثير من أشعاره، ممّا ينمُّ عن عروبته الخالصة، وتأثير ثقافة أساتذته فيه، وحفظه ومدارسته لكثير من أشعار سابقيه، وربّما ليعبّر عن قدرته الفائقة على ذلك. جاءت كثير من أشعاره جامعة بين أصالة القديم، وطرافة الجديد، فهو مقلّد حيناً، مبتكر أحياناً، وفي أغلب تقليده تتضح سمة التّجديد والتّطوير. كان لجلسائه من: شعراء، وأدباء، وعلماء، وخلفاء، وأمراء، ووزراء، الأثر الكبير في تقوية ملكة الشّعر عنده، فجاء شعره مهذّباً على قدر كبير من الجودة والعذوبة ورقّة الأسلوب، ودقّة المعاني، وسموِّ الخيال. يناقض ابن المعتزّ نفسه في بعض الأحيان، فنجده يذمُّ ما قد مدح، كما فعل مع الصّبوح والقمر، وهذا إمّا أن يكون راجعاً إلى تأثير عوامل نفسيّة فيه، وإمّا ليبيّن مقدرته على إثبات الشّيء وضدّه للموصوف، وإمّا لشيوع المناظرات في عصره. أتى بالعديد من المعاني والأفكار الجديدة المبتكرة التي جعلت عدداً غير قليل من الشّعراء يحتذون حذوه ويقتفون آثاره فينسجون على منواله. أبدع ابن المعتزّ في فنِّ التّشبيه، وأكثر منه كثرةً ميّزته عن غيره، إلاَّ أنّ قليلا من تشبيهاته جاءت دون المستوى، وهذه الصّورة جديرة بأن تُدرس دراسة مستقلّة. جاءت الاستعارة في أشعاره تالية للتّشبيه كمّاً، فكان أغلبها على قدر من الحسن والجمال، وهي أيضاً جديرة بالبحث والدّراسة. لم يعتمد على الصّورة المكنّاة في الكشف عن أفكاره ومعانيه بالدرجة التي اعتمد فيها على التّشبيه والاستعارة. جاءت في أشعاره بعض الألفاظ الأعجمية، وهي نتيجة لطبيعية عصره، وتعدّد الثقافات فيه، واختلاطها. جاءت ألفاظه جامعة بين الرّقّة حيناً والجزالة حيناً آخر، وذلك حسب ما يتطلّبه المقام. والحمد لله أوّلاً وأخيرً، والصّلاة على المبعوث هادياً ومبشِّراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه والتّابعين وسلّم تسليماً كثيراً.
فرج ميلاد محمد عاشور (2008)

أبو البقاء العكبري وتوجيهاته اللغوية للقراءات في كتاب التبيان

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله له الفضل كله وإليه يرجع الأمر كله، أحمده سبحانه أن وفقني لاختيار هذا الموضوع وأحمده أن أعانني على السير فيه وإتمامه فله الحمد أولا وله الحمد آخرا. والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد الهادي البشير والسراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد، فأرجو أن يكون هذا البحث قد كشف جانبا مهما من جهود الإمام أبي البقاء في كتابه التبيان، وأظهر شخصية أبي البقاء اللغوية، آملا ان يكون لي شرف الإسهام بلبنة في صرح المكتبة اللغوية والقرآنية. ولا شك أن علوم إعراب القرآن وتوجيه قراءاته تعتبر من أعظم ما يعين على فهم القرآن الكريم، إذ تعين على معرفة معانيه والكشف عن أسراره واستخراج حكمه وأحكامه وقد عُنِيَ هذا العمل بتتبع توجيهات القراءات القرآنية التي أطلقها أبو البقاء في أثناء دراسته للنص العزيز، من تجويز ورد للقراءات وذكر للخلاف بينها، ثم توجيهها في اللغة، وتخريجها في القراءة. فالبحث لم يكن يعرض للجواز أو المنع في أبواب اللغة المختلفة، بل إلى ما جاء منها إزاء القراءات القرآنية فقط، ثم يحققها من جهة الرواية ورودا وعدما. وقد ضم هذا العمل قسمين: قسما نظريا، وقسما تطبيقيا. تناول القسم النظري أصولا مهمة في علم القراءات وعلم التوجيه، وتمثل القسم التطبيقي في دراسة القراءات القرآنية التي أوردها أبو البقاء بالتوجيه اللغوي. وقد عني هذا البحث بتسليط الضوء على جانب هو من أهم الجوانب عند أبي البقاء، وهو الجانب اللغوي والنحوي، الذي برز في شخصيته عموما وبرز في هذا البحث مما يدل على اتساع ملكته اللغوية. ولعله يمكنني في هذه الخاتمة أن أنوه إلى أهم النقاط التي استخلصتها في هذا البحث: لأبي البقاء آراء لغوية لا تخرج في الغالب عن آراء جمهور البصريين وأصولهم، كما أن له اختياراتٍ اجتهد فيها خالف فيها هؤلاء الأئمة، كما أنه يستشهد أحيانا بأقوالٍ كوفية، غير أنه كثيرا ما يعترض هذه الآراء بالرفض أو التضعيف أو النقد. كما يلاحظ من خلال هذا البحث أن " التبيان " تحفة زاخرة في مجال اللغة والقراءات، التي هي أبرز موضوعات الكتاب، في تناول مزج فيه العلم النظري بالتطبيقي، فخدم بذلك أكثر من غرض، وذلل أمام الناشئة ما عسى أن يعترضهم من صعاب. أن القليل من النحاة كانت له بعض الاعتقادات الخاطئة تجاه القراء فمنهم من كان يعتقد أن بعض القراء يقرأ من خط المصحف ومن السماع من الرجال ومنهم من اتهم الناقلين عن القراء الكبار بالوهم وعدم الدقة والضبط في النقل ولكن الكثير من النحاة رفض هذه الاعتقادات ورد عليها. و ختاما أوصي إخواني طلبة العلم بمتابعة هذا الموضوع، باختيار هذا اللون من الدراسة، وذلك بدراسة توجيهات القراءات في أمهات كتب التفسير والقراءات، كالدر المصون، والبحر المحيط، والمحرر الوجيز، والتيسير، وغيث النفع، بوصفه أسلوبا يجمع بين القواعد وتطبيقاتها. و لا يسعني في هذا المقام إلا التضرع إلى الله عز وجل شاكرا له على ما مَـنَّ به علي من صواب وتوفيق، مستغفرا على ما وقع مني من زلل أو خطأ بسبب عجزي و تقصيري، فالكمال له وحده سبحانه، وأدعوه سبحانه بأن يحظى هذا البحث لدى أساتذتي الكرام بحسن الرضا وجميل القبول.
مصطفى رمضان أحمد الوحيشي (2008)

المدائـــح النبويـة في الشعر المغربي والأندلسي في القرن السابع الهجري

بعد هذه الرحلة الطويلة والممتعة مع الشخصية المحمدية من خلال استعراض المديح النبوي ببلاد العدوتين في القرن السابع الهجري، جاء الوقت الذي ألتقط فيه أنفاسي وأجمع أفكاري، وأرجع ببصري وبصيرتي إلى الوراء لاستخراج الخلاصة التي وصل إليها البحث. فقد حاولت في هذا البحث أن أرسم صورة جلية لقصيدة المديح النبوي خلال القرن السابع الهجري، وذلك بتناول المضامين والموضوعات الشعرية، وخصائصها الفنية؛ وقد توصلت إلى عدة نتائج يمكن تلخيصها فيما يلي: -إن الإرهاصات الأولى لفن المديح النبوي ببلاد العدوتين بدأت منذ القرن الثالث الهجري، ولكن ازدهارها وانتشارها الواسع لم يكن إلا مع أوائل القرن السابع الهجري، حيث سجلت حضوراً كبيراً في دواوين الشعراء وقصائدهم ومقطوعاتهم خلال عصر الدراسة. تتضمن المدحة النبوية مضامين مشتركة بين الشعراء في المشرق والمغرب الإسلامي؛ على الرغم من اختلافهم في تناول الموضوع كلٌّ حسب قدرته الفنية وبراعته الأدبية، والظروف الخاصة والعامة المحيطة به، وأغلب الشعراء دفعتهم عاطفة خالصة لمدح النبي الكريم غير مرتبطة بغرض مادي أو دنيوي، ولا مدفوعة بنوايا سياسية أو دينية. أهم الموضوعات التي احتوتها قصيدة المديح النبوي ببلاد العدوتين؛ تشمل: مدح النبي e، وذكر صفاته وشمائله الكريمة، وبيان معجزاته وفضائله والشوق والحنين للديار المقدسة، ومدح آثاره الكريمة (النعال)، ثم التوسل والتشفع بالنبي e؛ كل ذلك محملٌ بأرقى الأحاسيس والمشاعر التي تفيض وجداً ومحبة للشخصية المحمدية. ابتدع شعراء بلاد العدوتين خلال القرن السابع الهجري فنوناً للتصوير أو الصرف؛ التي تقتضي محاكاة الشكل، بأن يعود الشاعر إلى أعجاز قصائد مشهورة ويصرف معناها لمدح النبي. براعة شعراء المدح النبوي في بلاد المغرب والأندلس في تضمين مدائحهم صور ومعاني شعرية مستمدة من الموروث الديني، مستمدين منه حقائق الأمور المتعلقة بالشخصية المحمدية، بالإضافة إلى قوة التعبير والأسلوب من ألفاظ وتعابير القرآن الكريم والسنة النبوية. حظيت الأماكن التي ارتبطت بالشخصية المحمدية بالكثير من الاهتمام لدى الشعراء، خاصة الأماكن المقدسة (مكة، طيبة، البيت الحرام زمزم. . ) وقد امتزجت هذه الأماكن بالمدائح النبوية بصورة مؤثرة انعكست على الشعراء فأفاضوا في الحديث عنها، فمنهم من تناولها في ثنايا مدائحه النبوية، والبعض الآخر أفرد لها قصائد خاصة، حوت تجربته الذاتية وحنينه لزيارة تلك المواطن المقدسة. تعلق الشعراء ببلاد العدوتين بالشخصية المحمدية باعتبارها الملاذ والملجأ الذي يقيهم ويلات الحياة وخطوبها، وتقودهم لتحقيق النصر على أعداء الإسلام، فشكلت الشخصية المحمدية رمزاً للبطولة والشجاعة والإقدام، ومحفزاً للجهاد في سبيل الله. حاول الشعراء إبراز الجوانب الأخلاقية والإنسانية في النبي e، من خلال إظهار خصال وملامح الشخصية المحمدية، وما تمثله من خير وصلاح يعود على الخلق كافة، فالنبي يمثل رمزاً للمحبة والعدل والحرية والحق والكرامة الإنسانية. درج أغلب الشعراء ببلاد العدوتين على تقليد القدماء في البناء الشعري لقصيدة المديح النبوي، مع وجود بعض محاولات التجديد في مقدمة القصيدة النبوية وتحولها إلى مقدمة دينية أو تشوقية أو صوفية. . ، وقد شهد العصر خروج القصيدة عن مضامينها التقليدية الموروثة إلى معاني صوفية أكثر عمقاً وإيحاءً، كما اعتمدت بعض القصائد والمقطوعات النبوية على الولوج إلى موضوع القصيدة دون مقدمات، وذلك بما يلائم الظروف والمناسبات التي قيلت فيها المدائح النبوية. وفيما يخص الشكل، فيمكن القول بغلبة الموروث الشعري القديم على قصيدة المديح النبوي ببلاد العدوتين، الذي يعتمد المقدمة الغزلية ووصف الرحلة والراحلة. . ، ثم التخلص منها للولوج إلى مدح النبي وإبراز ملامحه الخاصة والعامة، يلي ذلك التوسل بالنبي وطلب شفاعته، ثم الخاتمة والتي غالباً ما تكون بإرسال التحية والصلاة والسلام على سيد الخلق، مع وجود بعض المحاولات للخروج عن هذا النمط التقليدي، حيث اتخذت المدائح أشكالاً جديدة منها مدح النعال، والشفاعة والتوسل، والشوق والحنين للديار المقدسة. لقد شكلت المواقف والظروف الحياتية للشعراء ببلاد العدوتين خلال القرن السابع الهجري خطوطاً عريضة، انطلقوا من خلالها لرصد الملامح المحمدية، حيث أدى سوء الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى عدم الاستقرار النفسي لديهم، مما جعلهم يلجأون إلى الله ورسوله طامحين إلى تحقيق الأمن والطمأنينة في قلوبهم. رصدت الدراسة استخداماً لعدة أنواع من الصور الشعرية منها: البيانية والبديعية كالتشبيه والاستعارة والكناية والتشخيص، كما اهتم الشعراء بالمحسنات البديعية التي أثرت المدائح النبوية بعديد المعاني والأخيلة، ويؤكد هذا الاهتمام على رفعة الذوق الشعري لدى شعراء العدوتين ومن جانب آخر ظهرت صور شعرية لم تكن لتظهر لولا مدح النبي الكريم. تميزت قصيدة المديح النبوي خلال القرن السابع الهجري بهيمنة المعجم التراثي في عدة جوانب منها، بالإضافة إلى تأثير الاحتكاك الحضاري بما يوافق التجربة الفنية والوجدانية لدى الشعراء. أما عن الأسلوب فقد تراوحت قصائد المديح النبوي بين الرقة والسهولة واليسر وبين الفخامة والجزالة والقوة؛ وذلك بما يوافق التجربة الفنية والوجدانية لدى الشعراء. التزم الشعراء ببلاد العدوتين بالأوزان التقليدية الطويلة، والقوافي الفخمة التي سار عليها مداح النبي في المشرق الإسلامي، وهذا ما ساعد في تحقيق مظهر الجلال الموسيقي لقصيدة المديح النبوي. تؤكد الدراسة وجود علاقة وطيدة بين العقيدة والفن، حيث يؤدي التحامهما معاً لتحقيق عدة أغراض فنية وموضوعية في المجتمع الإسلامي مما يبعث في النفوس القوة والحب والاطمئنان وهذا ما دفع الشعراء إلى التشبث بفن المديح النبوي عبر العصور وإلى يومنا هذا. وخلاصة القول، إن شعراء المديح النبوي ببلاد المغرب والأندلس خلال القرن السابع الهجري قد اهتموا بالجانب الديني على حساب الجانب الفني في قصيدة المديح النبوي مما جعل قصائدهم تميل إلى التقليد والارتكاز على الموروث الشعري القديم، كما مالت لغتهم وأساليبهم الشعرية إلى البساطة، ودخلت بعض الأبيات في التكلف. . ، وذلك لتركيز الشعراء على الدفاع عن الإسلام والمسلمين، الذين تعرضوا في ذلك الوقت إلى حملات شرسة غرضها تحطيم الإسلام وكسر شوكته، مما حذا بالشعراء وهم في معظم الأحيان ضمير الأمة وصوتها الناطق للدفاع عنه باللجوء إلى الله ورسوله داعين الأمة الإسلامية لمواجهة الخطر مهما بلغت قوته متأملين النصر، كما انتصر النبي على أعداء الإسلام. عجالة لا يمكن أن تشمل كل ما وصل إليه البحث من نتائج ولا أزعم في دراستي هذه أنني حققت كل ما أريد، ولكن هذا مبلغ العلم وغاية الجهد. وأرجو أن يتقبله الله، ويغفر هفوات اللسان وتعثر القلم في الوصول إلى المبتغى.
خديجة عمران أبو بكر مادي(2007)

شرح المفصل بين ابن يعيش(ت 643هـ)، وابن الحاجب(ت 646 هـ)، والجندي(ت 700 هـ)

تَضَمَّنَ هَذَا البَحثُ المُوَازَنَةَ بَيـنَ ثَلاثَــةٍ مِن شُـرُوحِ المُفَصَّـل أَولهـا: شرح ابن يعيش ( ت 643 ﮪ)، والثاني: الإيضاح لابنِ الحاجبِ( ت 646 ﮪ )، والثـالث: الإقلـيدُ لـتاجِ الديـنِ أحمد بن محمـود الجَنـديّ ( ت 700 ﮪ). وكانت نتائجُ البحثِ على النحو الآتي: اتضح لي أنّ نسبة كتاب (حاشية على تصريف العـزيّ لابـن جنّي ) ؛ لابن يعيش أمرٌ بعيد عن الصواب ؛ والذي وضع عليه ابن يعيش حاشيـة هـو المصنّـف، الذي هو شرح لتصـريف المازنـي. أمّا تصـريف العـزيّ فهو تصـريف للزنجاني المعروف بالعزيّ. المكتفي للمبتدي شرح لمختصر الإيضاح واسمه الإيجاز ؛ ورأى بعض الباحثين أنَّ المكتفي للمبتدي هو شرح مختصرلإيضاح الفارسيّ. الإقليد للجَنْدِيّ ( أحمد بن محمود بن عمر بن قاسم الجَنديّ ت 700ﮪ )؛ وهو من العلماء المغمورين، له زيادة على الإقليد اثنان من المصنفات. تضمنت مقدمة شرح ابن يعيش شرحا، وتفسيرا لمقدمة الزمخـشري ؛ وتوضيحا لمعاني المفردات الغامضة فيها ؛ مع بيان سبب تأليف الكـتاب ؛ كذلك كانت مقدمة الجَنْدِيّ ؛ أمَّا مقدمـة الإيضاح فقـد اكتفـى صاحبها بالتوضيـح، والتفسير دون ذكر أسباب التأليف. رأى ابنُ يعيش أنَّ في المفصَّل ما يحتاجُ إلى التوضيحِ، ومنه ما يحـتاج إلى التفصيل، وفيه ما ينقصه الدليل ؛ وكانت هــذه أسباب ودوافع ابن يعيش لشرحه المفصَّل. ورأى الجَنديّ أنَّ فيه من الغموض ما يقتضي شرحه. تضمنت مقدمة ابن يعيش ( تسع عشرة آية)، واحتجّ الجَنديّ بـ ( سبع آيات )؛ وخلت مقدمة الإيضاح من الشواهد القرآنية. احتجّ بالحديث النبويّ الشريف في مقدمة شرح ابن يعيش، والإيضاح ؛ ولم يرد الاحتجاج بالحديث النبويّ في مقدمة الإقليد. تضمنت مقدمة ابن يعيش ثمانية وعشرين بيتاً من الشعـر، وتضمـنت مقدمة ابن الحاجب تسعة عشر بيتاً شعرياً، وتضمنت مقدمة الإقليد أربعة أبيات، واثنين من أنصاف الأبيات. احتجّ بالمثل في أربعــة مواضع من مقدمــة ابن يعيش، و في خمسة مواضع من مقدمة الإيضاح، وفي أربعة مواضع من مقدمة الإقليد. لم تخلُ مقدمات الشروح من مناقشة بعض القضايا النحوية. امتاز المفصَّل بترتيبه الذي جاء بطريقة مختلفة عمَّا سبـقه ؛ إذ جـاء في أربعة أقسام: الأول خاص بالاسماء، والثاني خاص بالأفعال، والثالث خـاص بالحروف، والرابع خاص بالظواهر المشتركة. وهو التقسيم ذاته الذي اتبع في الشروح. اعتمد ابن يعيش تقديم نصّ المفصّل ثُمّ شرحه، وكان يشير إلى بداية النص بجملة ( قال صاحب الكتاب ) ويشير إلى بداية الشرح بجملة ( قـال الشارح )، وذلك في معظم نصوص الكتاب ؛ كذلك كانت طريقة ابن الحاجب وهو يشير إلى بداية النص بجملة ( قال الزمخشـريّ ) ويشير إلى بداية الشـرح بجملة ( قـال الشيخ )، وذلك في الغالب. أمَّا الجَنـْدِيّ فقد خالف الاثنيـن ؛ إذ اتبع طريقة المزج في شرحه ما أدّى إلى اختلاط نصّ الشرح بنصّ المفصل. فاق ابن يعيش غيره من الشـرَّاح في سعـة المـادة المشروحـة، وكان أسلوب غيره أكثر إيجازاً، وأشار الجَنْدِيّ إلى اعتماده أسلوبا وسطاً. كانت الشواهد الشعرية من الأدلـة على توسـع ابن يعيش ؛ إذ ورد فـي المفصّل( أربعمائة وخمسة وأربعون )شاهداً؛ زاد عليها ابن يعيش حتّى بلغــت ( ألفاً وأربعة وأربعين ) شاهداً. وذكر ابـن الحاجـب ثلاثمـائة وثلاثـة من الشواهـد الشعريّة، منها مائة وسبـعة وخمسـون سبـق ذكرها في المفصّل، واعتمد الجَنـديّ أربعمائة وأربـعة وستين شاهداً، منها مائتان وعشرون سبق ذكرها في المفصّل. ولكون الشرَّاح من المتأخرين ؛ فقد اتّضـح لديـهم اتباع مذهب البصـرة ؛ نلاحظ ذلك من خلال تقديمهم المذهب البصـري في معظم الأحيـان، أو مـن خلال موافقتهم البصريين غالبا. اعتمد الشراح مصطلحات البصريـين ؛ مع ذكـرهم مصطلحـات الكوفيين ؛ وذلك في معظم المصطلحات. أخذ الشراح عن الكثير من المصادر، والكثيـر من أقــوال الشيـوخ ؛ لتـتكون منها مادة شروحهم، وكان في مقدمتهاأقوال سيبويـه، ونصوص كتابه إذ ورد ذكـــره فـي ( مائتين وأربعة وستين ) موضعـــاً من شـــرح ابن يعيـش، وذُكـر فــي( مائتيـن واثنـين وثلاثين ) موضعاً من الإيضاح، وذُكـر في ( خـمسة وثمانين ) موضعاً من الإقليد اعتمد الشراح أقوال الخليل؛ إذ ورد ذكره في ( تسعين ) موضعاً من شرح ابن يعيش، وذُكر في ( تسعة وأربعين ) موضعاً من الإيضــاح، وذُكــر في ( أربــعة وأربعين) موضعاً من الإقليد اعتمد الشرَّاح أقوال عدد من النحويين الذين ظهروا بعد سيبويه من أمثال المبرِّد ( ت 285ﮪ)، والجرميّ ( ت 255ﮪ)، والمازنيّ( ت 249ﮪ)وأخذ الشـرَّاح أيضاً عن مجموعـة من متأخـري النحوييـن من أمثـال السيـرافيّ( ت 368 ﮪ )، وأبي علي الفارسيّ ( ت 377 ﮪ )، وابن درستويـه ( ت 347 ﮪ ) ولم يفت الشراح الأخذ عن علماء الكوفة أيضا. أخذ الشرَّاح أيضاً عن علماء اللغة. وقد يأخذ الشرّاح عن الفقهاء في بعض المواضع وقد يأخذ الشرَّاح عن مصنفات الزمخشريّ الأخرى ولاحظنا أخذ الجَنْدِيّ عن تلامذة المصنف. وقد اعتمد ابن يعيش مصنفاته الأخرى ؛ لتكــون من مصادر شرحــه امتاز الشرَّاح بالأمانة في النقل سواء أكان النقل حرفيا أم بالمعنى. فقد جاءت معظم الآراء منسوبة إلى أصحابها إلا في القليل النادر. عني الشراح بنسبة الآراء إلى أصحابها في معظم نقولاتهم إلا في القليل النادر. وقد يذكر الشرَّاح المصنف مع مؤلفه، وقد يُكتفى بذكر المصـنَّف المنقول عنه فقط. اعتمد الشرَّاح القياس ؛ ليكون من الأدلة على مسائل الشروح ؛ وقد أجمع الشرّاح على رفـض القيـاس عـلى الشـاذ كذلك ذكـرت في الشـروح عدد من النصوص التي أشار الشرَّاح إلى مخالفتها القياس، أو مطابقتها له. اعتمد الشرَّاح التعليل أيضا ؛ وقد وجد التعليل بطرق مختلفة في الشـروح منها الذي يخدم قواعد اللغة، ومنها الذي اعتمد المنطق. وقد يذكر الشــرَّاح علتين في المسألة الواحدة، أو يرجح أحد التعليلات على غيره. . . أو يضيــف الشرّاح تعليلا زيادة على ما ذكر في المفصّل، أو يعـتمد الشرَّاح التعليـــل المستنـد إلى المعنى، أو يكمل الشرَّاح ما فــات الزمخشري في التعليــل، أويذكـر الشرَّاح سبب اختيارهم علة معينة. اعتمد الشرَّاح الكثير من الشواهد ؛ للاحتجاج بها، وفي مقدمتها شـواهد القرآن الكريم ؛ إذ بلغ عدد الشواهد القرآنيـّة في شـرح ابن يعيـش ( 937 ) شاهدا، وبلغ عددها في الإيضاح ( 296 )، وبلغ عددها في الإقلـيد ( 238 ) شاهداً. جاءت القراءات منسوبة في شرح ابن يعيش، والإيضاح في الغالب. أمَّا الإقليد فما جاء منسوباً من قراءاته ؛ فإنّه منسوب مسبقاً في المفصّل احتجّ ابن يعيش، وابن الحاجب بالقراءات السبعية سـواء أكانت ممَّا أجمع عليه، أم لأحدهم؛ فقد احتجّ ابن يعيش بقـراءة أبي عمـرو في ثمانيـة مواضع، واحتجّ للكسائيّ في خمسة مواضع، واحتـجّ لابن عامـر في خمسة مواضـع، واحتجّ لابن كثير في ثلاثة مواضع، واحتجّ لنافع في موضعين، واحتجّ لحمزة في موضعين، واحتجّ لعاصم في موضع واحد فقط. اعتمد ابن يعيش أيضاً قراءة اثنين من القراء السبعة، واحتجَّ أيضاً بقراءات لقرَّاء من غير السبعة. وهو ما سار عليه ابن الحاجب ؛ إذ احتجّ بقراءة الكسائيّ في أربعة مواضع واحتجّ بقراءة ابن عامر في موضع واحد، واحتجّ بقراءة حمـزة في موضـع واحد، واحتجّ بقراءة ابن كثير في ثلاثة مواضع، واحتجّ بقراءة أَبي عمرو في موضعين. وقد يحتجّ ابن الحاجب بقراءة لقاريء من غير السبعة ؛ إذ احتـجّ بالقراءة الشاذة لابن مسعود. ورد الاحتجاج بالحديث النبويّ الشريف في الشروح ( موضوع البحـث )؛ منها ما ورد ذكره مـسبقاً في المفصَّل، ومنها مازاده الشــرَّاح ؛ وقد بلغ عدد الأحاديث في شـرح ابن يعيـش ( 22) حديثـاً، وبلـغ عددهـا في الإيضـاح ( 07) أحاديث، وبلغ عددها في الإقليد ( 07) أحاديث. احتجّ الشرَّاح بشعر مختلف الشعراء مما أجاز العلماء الاحتجاج به، ولم يخالف ابن يعيش العلماء الذين رفضوا الاحتجاج بشعر المولديـن إلا في القلـيل النادر ؛ وذلك ببيت واحد لأبي نواس، واحتجّ ببيت واحد للشاعر ( أبي تمَّام ) ؛ وذكر أَيضاً بيتاً للمتنبي على أنّه ممــن اتبع مذهب الكوفيين مما لم يتفـق معه ابن يعيش ؛ وذكر بيتا آخر للمتنبي على أنَّه مردود، وذكر عـدداً من الأبيات الشعريّة للاستئناس بها. أمَّا ابن الحاجب فلـم يخالف العلمـاء في مســالة الاحتـجاج ؛ إذ احتجّ بشعر لشعــراء ضمـن الطبقات التي أجــاز العلماء الاحتجاج بشعـرها، ولم يخرج عما أجـازه علمــاء اللغة. وقد خالف الجندي علماء اللغة ؛ إذ احتجَّ بشعـر المتنـبي في أحــدَ عشرَ موضعاً؛جاء أحدها فقط لتوضيح معنى من المعاني؛ أمّا معظمـــها فقد جاء للاحتجاج به على مسائل الكتاب واحتجّ أيضا بشعر أبي العلاء المعريّ، وابن الرومي تضمنت الشروح كثيراً من المسائل الخلافية بين نحويـي البصرة والكوفة، وقد بلغ عددها ( 178) مسألة. ومـن تلك المسائل ما فـات الأنبـاري مؤلف الإنصاف ؛ وفيما يأتي ذكر لعدد من المسائل التي لم يرد ذكرها في الإنصاف: نصب الاسم والخبر بعد ليت. كلمته فاه إلى فيّ. جواز خفض ما بعد إلا إذا كان نكرة. تعريف العدد بدخول ( أل ) على المضاف إليه. الجهات الست وملازمتها الظرفية. اسم التفضيل المضاف إلى اسم مجموع. ياء النسب. حرص الشرَّاح أيضاً على إيراد آرائهم ممّا خالفوا فيه صاحب المفصَّل ؛ إذ أورد ابن يعيش ( 24) موضعاً ممَّـا خـالف فيه الزمخشـريّ، وذكـر ابن الحاجـب ( 48) موضعاً ممَّا خالف فيه الزمخشريّ، وذكر الجَنديّ ( 20 ) ممّا خالف فيه صاحب المفصّل. وأخيراً يمكن القول: إِنَّ شرح ابن يعيش أوسع الشروح مـادة ؛ إذ فـاق غيره من الشروح في عدد الشواهد، وفي عدد المسائل الخلافية، كمـا تميـَّز أيضـاً بسهولة العبارة ووضوحها، وبطريقته التي فصل فيها متن المفصل عن الشرح.
سهير علي عبد الحسين عبد الله (2006)